Lebanonfiles.com الخميس ١٤ أيار ٢٠٢٠ – 06:18
لسنا على شفير الهاوية بل نحن فيها، واللبنانيون ينتظرون بفارع الصبر حلولاً لأزمتهم المعيشية والاقتصادية التي أوصلت أكثر من 50% منهم الى خط الفقر وما دون. وللمرة الأولى تضع الحكومة برئاسة رئيس الوزراء حسان دياب خطة اقتصادية جدّية تعرض فيها المشكلة بشفافية وتطرح الأرقام الحقيقية التي تكشف حجم التعثر الفظيع الذي وصلنا اليه، محاولة إيجاد حلول مستدامة تعالج أسباب المرض وليس العوارض فقط، على عكس الترقيعات السابقة. وأكثر ما يميّز هذه الخطة إضافة الى شفافيتها أنها تطرح حلولاً تتسم بالجرأة أبرزها استعادة الأموال المنهوبة ومحاسبة الفاسدين.
واليوم حددت الخطة الخسائر التي يجب التعامل معها، والتي وصلت الى 241 ألف مليار ليرة (159 مليار دولار على سعر صرف 1507.5 ليرة) مقسّمة على الشكل التالي: 73 ألف مليار ليرة خسائر إعادة هيكلة الدين العام، 66 ألف مليار ليرة خسائر متراكمة في ميزانية مصرف لبنان، 62 ألف مليار ليرة خسائر صافية في ميزانية مصرف لبنان والمصارف بسبب تدني قيمة العملة اللبنانية الى 3500 مقابل الدولار، و40 ألف مليار ليرة خسائر المصارف على محافظ التسليفات.
وبرغم الجهود المشكورة لهذه الخطة، الا أن فيها عدّة ثغرات أساسية، أبرزها: أنها ركزت بكل رئيسي على تعويض الخسائر من القطاع المصرفي، وكأنه هو أساس المشكلة، متغاضية عن عدّة حلول أخرى أكثر فعالية. فقد ذكرت الخطة أنها ستحصل على 23 مليار دولار من رؤوس أموال المصارف و60 مليار دولار من أموال المودعين، على أن تعوضهم لاحقاً من عائدات خصخصة الأملاك العامة، وباقي الخسائر تعوض من الأموال المنهوبة ومساعدات صندوق النقد ومؤتمر سيدر. وهنا نطلق جرس الإنذار للانتباه قبل ضرب القطاع المصرفي، لأن ذلك سوف يؤدي الى مضاعفات جسيمة ومؤذية على الاقتصاد والشعب. بل على العكس يجب الآن دعم القطاع المصرفي لأنه أساسي لنهوض البلد، وهو رغم أخطائه الكثيرة في الفترة السابقة، الا أنه كان أيضاً ضحية ممارسات خاطئة وضغوط سياسية ومالية عدّة.
واليوم إذا كانت هناك نيّة حقيقية وصادقة للإصلاح ومنع تدهور الاقتصاد وتفقير وتجويع الشعب، يجب أن على الحكومة وضع خطة إقتصادية تقوم على دعم القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والصناعة والسياحة التي من شأنها أن تخفف الضغط على العملة الصعبة، وهذه القطاعات يجب أن تتماشى مع قطاع مصرفي سليم، لأنه ضمانة للاقتصاد ولما تبقى من ودائع، التي إن تم الاقتطاع منها سوف تفجر مشكلة اجتماعية لا تحمد عقباها، وتلغي الثقة بالقطاع المصرفي الى أبد الآبدين.
فالمصارف التي أطلقت قبل الأزمة بالتنسيق مع مصرف لبنان منتجات مغرية بفوائدها العالية لجذب رؤوس الأموال من المقيمين والمغتربين، وحتى الأجانب الذين استثمروا بتلك المنتجات كأي منتج مالي في الأسواق العالمية، بأي حق تطالبهم الحكومة اليوم باستعادة الفوائد عليها؟ الم يكن من الأجدى محاسبة المصارف ومصرف لبنان الذين أطلقوا تلك المنتجات ومعرفة لصالح من قامت ومن المستفيد منها؟
أما ما يحكى عن الخصخصة لتعويض أموال المودعين، فإن معظم المؤسسات التي تديرها الدولة فاشلة وغارقة بالفساد، فهل سيتمكن اليوم الرئيس دياب أن يراقب إعادة هيكلتها ويمنع المحاصصات، ويوقف الهدر ويطلق عجلة الاستثمارات الذكية التي تقوم على الشراكة بين القطاعين العام والخاص؟
الأموال المنهوبة والمهربة
وبالعودة الى إيجابيات الخطة وجرأتها في البحث في موضوع استعادة الأموال المنهوبة والمهربة، فالشعب اليوم بحاجة لرؤية خطوات جدّية وواضحة في هذه المسألة، قبل الاقتطاع من ودائعه، لأن العدالة تكمن هنا. وقد كان من الأجدى تعقب الأموال المنهوبة منذ 30 سنة، تاريخ تأسيس هذه المنظومة المالية السياسية الفاسدة، وليس فقط منذ الأول من كانون الثاني 2019. وإن كانت عملية استعادة الأموال المنهوبة صعبة، حيث العديد من الدول لم تستطع اليها سبيلا، الا أنها ليست مستحيلة، ويمكن تتبع حسابات كل من تعاطى بالشأن العام عبر ما يعرف بالـ Political Exposed Personal، أو عبر الاتصالات المباشرة مع سفراء الدول التي تشكّ حكومتنا أن في مصارفها أموال لبنانية منهوبة، مثل سويسرا ولينشتاين وسنغافورة وبنما وسواها.
أما الأموال والمهربة فيمكن رصدها عبر نظام الـ Swift وطلب تجميدها. كما أن هناك أموالاً لا يستهان بها ما زالت ضمن القطاع المصرفي اللبناني، لأشخاص تعاطوا بالسياسة والشأن العام أو موظفي القطاع العام، وهذه الأموال من السهل تتبعها ومصادرتها في حال ثبتت أي شبهات على صاحبها. وهنا من الضروري أن تتخلص الحكومة من المحاصصة والضغوط الممارسة عليها، وأن تحرر يد القضاء وديوان المحاسبة، والمباشرة باتخاذ خطوات جريئة ضمن لبنان وخارجه، وان اضطر الامر يمكنها الاستعانة بالقضاء الدولي.
صندوق النقد .. الشرّ الذي لا بدّ منه
وأما صندوق النقد فهو الآن المنقذ الوحيد الذي ينتشلنا من الغرق، لأنه يؤمّن كتلة نقدية كبيرة أساسية لالتقاط أنفاسنا. وبرغم أنه كانت هناك عدّة تجارب فاشلة مع الصندوق، الا أن تجارب أخرى كانت ناجحة جداً. ونحن اليوم مضطرون للقبول بكل شروطه، حتى ولو كانت قاسية أحياناً على المواطن مثل زيادة الضرائب وتحرير سعر الصرف، الا أننا بحاجة الى هذه الأموال لتغطية الاحتياجات الأساسية للبلد مثل الغذاء والأدوية وسواها. واليوم التحدي الأكبر للحكومة هو عامل الوقت الذي يداهم البلد على شتى الصعد، وعلى الدولة الانتقال فوراً من مرحلة اللجان والصياغة والدراسات الى مرحلة التطبيق الفعلي والتفاوض الجدي والعلمي والعملي مع المجتمع الدولي (أي صندوق النقد والدول المانحة)، والا فالكارثة آتية لا محال.
سيدر الشر الذي يمكن الاستغناء عنه
لكن في المقابل أموال “سيدر” المخصصة لتطوير البنى التحتية، فمن الأفضل الاستعاضة عنها بمشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، بدل أن نرتب على الدولة ديوناً جديدة، عبر الـ PPP (Public private Partnership) والـ BOT (BuildOperate and Transfer) أو(Engineering Procurement, Construction + Finance) EPC +F، وعبر مناقصات عالمية شفافة تدخل رؤوس أموال جديدة وتحسن من إنتاجية القطاعات العامة وتوقف نزيفها، ومنها على سبيل المثال الكهرباء والسدود والجمارك والاتصالات وسواها.
تحرير سعر الصرف، الواقع المرير
وأخيراً فإن قرار الخطة بتحرير سعر الصرف الى 3500 ليرة وبعده الى 4200 في 2024، على أن يحرر لاحقاً بنسبة 5% سنوياً، أمر خطير جداً في هذه المرحلة وسوف يحدث صدمة كبيرة، وكان من الأجدى تحريره تدريجياً منذ من 10 سنوات. فليس من فترة بعيدة كان موظفو القطاع العام يطالبون بسلسلة الرتب والرواتب، واليوم يخسرون أكثر من نصف رواتبهم، فهل يؤدي ذلك الى انفجار اجتماعي؟ خصوصاً أن ليرتنا هي أصلاً ضعيفة لأن اقتصادنا ريعي قائم على الاستيراد الذي يستنزف العملة الصعبة، بدل الصناعة التي أصبحت شبه معدومة، والزراعة والسياحة الذين تم تدميرهما، إضافة الى تدمير العديد من القطاعات في السنوات القليلة الماضي، حيث الفوائد المصرفية العالية جذبت رؤوس الأموال الى القطاع المصرفي، بدل الاستثمار في مشاريع حيوية تنشط الاقتصاد وتؤمن لنا العملة الصعبة وتوفر فرص العمل.
وأمام هذا الواقع فإنه من المستحسن الآن أن يتم تثبيت العملة على أي سعر ترتأيه الدولة مناسباً مع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الراهنة، والقيام بعدّة خطوات أساسية، أبرزها: الاستحصال على مبلغ الـ 28 مليار دولار من الدول المانحة الأمر الذي سوف يعيد رسملة الدولة والقطاع المصرفي، استعمال الذهب لتغطية الليرة، تشريع الكابيتال كونترول، وضع خطة حكومية تتضمن إعادة هيكلة الدين العام (خاصة المتعلّق بالمصرف المركزي)، وتخفيض حجم إنفاق الدولة وخدمة الدين العام، والتخلص من مشكلة الكهرباء، مما سيوصلنا الى موازنة متوازية، ويساهم بتثبيت سعر الصرف وبالتالي إمكانية إنشاء مجلس نقد لحماية العملة، وجعلها مستقلة استقلالاً كاملاً
عن المصرف المركزي.
حلول أساسية غائبة
وفي النهاية نتساءل لماذا لم تلتفت الدولة الى حلول أخرى لحلّ أزمتها؟ ومنها على سبيل استعادة الأملاك البحرية التي يمكن أن تدر أكثر من مليار دولار للخزينة سنوياً، وفرض ضرائب عالية على “سوليدير” المشروع الاستيلاء على عاصمة لبنان والذي حقق أرباحاً طائلة خلال السنوات الماضية، وإلغاء الوكالات الحصرية لدعم الاقتصاد الحرّ ومنع الاحتكارات، وكذلك البحث بقضية اللاجئين السوريين التي أصبحت عبئاً كبيراً على البلد وتفوق قدرة تحمله، إضافة الى تحفيز المغتربين للعودة والاستثمار في وطنهم في مجالات الزراعة والصناعة والسياحة وعدم تركهم فريسة لزعماء الميليشيات والطوائف، كما يمكن اطلاق مسيرة المشاريع الاستثمارية التي ذكرناها، والتي بإمكانها أن تدخل رؤوس أموال طائلة الى البلد وتحسن الإنتاجية والعملة، والعديد سواها من القضايا التي تعيد للبلد سيادته. علماً أن الدعامة الأساسية لأي حل كان هي إعطاء القضاء وديوان المحاسبة صلاحياتهم الكاملة للضرب بيد من حديد، وإحقاق الحق بعيداً عن المحسوبيات والتبعية الطائفية التي هي أساس الخراب الذي نخر سيادة هذا الوطن.